هو بطل حطين، وأعظم قواد صلاح الدين..
زوجه صلاح الدين الأيوبى أخته عرفانًا بفضله، وأعطاه ملك إربل وما حولها.. وأفاض المؤرخون فى وصف بطولاته ومآثره ومكارم الأخلاق عنده..
ولكنهم يذكرون على رأس فضائله احتفاله العظيم بمولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان العلماء والفقراء وأهل الفضل يقصدون إلى إربل قبل موعد المولد بزمان ليشهدوا الفرحة والبهجة والسرور وأنهار الخير والبر تفيض على الناس..
انظر أخباره فى "سيرة صلاح الدين" لابن شداد، و "ذيل الروضتين" لأبى شامة، و "النجوم الزاهرة" لابن تغرى بردى، و "العبر" للذهبى، و "شذرات الذهب" لابن رجب الحنبلى، و "مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزى، و "التاريخ الباهر" لابن الأثير، و "وفيات الأعيان" لابن خلكان..
ومن الأخير ننقل طرفًا من أخباره ومن أخبار هذا الاحتفال العظيم..قال ابن خلكان:
"وأما سيرته فلقد كان له فى فعل الخيرات غرائب لم يسمع أن أحدًا فعل فى ذلك ما فعله، لم يكن فى الدنيا شىء أحب إليه من الصَّدَقة، كان له كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج فى عدة مواضع من البلد يجتمع فى كل موضع خلق كثير يفرق عليهم فى أول النهار".
"وكان إذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع عند الدار خلق كثير فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الشتاء أو الصيف أو غير ذلك، ومع الكسوة شىء من الذهب من الدينار والاثنين والثلاثة وأقل وأكثر".
"وكان قد بنى أربع خانقاهات للزَّمنى والعُمْيان وملأها من هذين الصنفين، وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم، وكان يأتيهم بنفسه فى كل عصرية اثنين وخميس ويدخل عليهم، ويدخل إلى كل واحد فى بيته، ويسأله عن حاله ويتفقده بشىء من النفقة، وينتقل إلى الآخر، وهكذا حتى يدور على جميعهم، وهو يُباسطهم ويمزح معهم ويجبر قلوبهم".
"وبنى دارًا للنساء الأرامل، ودارًا للصغار الأيتام، ودارًا للملاقيط رتب بها جماعة من المراضع، وكل مولود يُلتقط يُحمل إليهن فيُرْضِعنه، وأجرى على أهل كل دار ما يحتاجون إليه فى كل يوم، وكان يدخل إليها فى كل وقت ويتفقد أحوالهم ويعطيهم النفقات زيادة على المقرر لهم"
" وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض، ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه، وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه أو فقير أو غيرهما، وعلى الجملة فما كان يمنع منها كل من قصد الدخول إليها، ولهم الراتب الدارُّ فى الغداء والعشاء، وإذا عزم الإنسان على السفر أعْطَوْه نفقة على ما يليق بمثله"
" وبنى مدرسة رتّبَ فيها فقهاء الفريقين من الشافعية والحنفية، وكان كل وقت يأتيها بنفسه، ويعمل السماط بها ويبيت بها ويعمل السماع (أى الإنشاد الصوفى والمدائح النبوية)، فإذا طاب وخلع شيئًا من ثيابه، سيّر للجماعة بكرة شيئًا من الأنعام، ولم يكن له لذة سوى السماع، فإنه كان لا يتعاطى المنكر، ولا يمكن من إدخاله إلى البلد".
"وبنى للصوفية خانقاهين فيهما خلق كثير من المقيمين والواردين، ويجتمع فى أيام المواسم فيهما من الخلق ما يعجب الإنسان من كثرتهم، ولهما أوقاف كثيرة تقوم بجميع ما يحتاج إليه ذلك الخلق، ولا بدّ عند سفر كل واحد من نفقة يأخذها، وكان ينزل بنفسه إليهم ويعمل عندهم السماعات فى كثير من الأوقات".
وكان يُسَيِّر فى كل سنة دفعتين جماعة من أمنائه إلى بلاد الساحل ومعهم جملة مستكثرة من المال يفتكُّ بها أسرى المسلمين من أيدى الكفار، فإذا وصلوا إليه أعطى كل واحد شيئًا، وإن لم يصلوا فالأمناء يعطونهم بوصية منه فى ذلك".
" وكان يقيم فى كل سنة سبيلا للحاج، ويُسيِّر معه جميع ما تدعو حاجة المسافر إليه فى الطريق، ويسيّر صحبته أمينا معه خمسة أو ستة آلاف دينار ينفقها بالحرمين على المحاويج وأرباب الرواتب، وله بمكة، حرسها الله تعالى، آثار جميلة وبعضها باق إلى الآن، وهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات ليلة الوقوف، وغرم عليه جملة كثيرة، وعمّر بالجبل مصانع للماء، فإن الحجاج كانوا يتضررون من عدم الماء، وبنى له تربة أيضًا هناك."
جوانب من احتفاله بمولد النبى صلى الله عليه وسلم:
"وأما احتفاله بمولد النبى صلى الله عليه وسلم، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به، لكن نذكر طرفًا منه: وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه، فكان فى كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل ـ مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحى ـ خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول."
" ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة وأكثر، منها قبة له، والباقى للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المستجملة، وقعد فى كل قبة جوق من المغانى وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهى، ولم يتركوا طبقة من تلك الطباق فى كل قبة حتى رتبوا فيها جوقًا، وتبطل معايش الناس فى تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم".
" وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه(بيت الصوفية) المجاورة للميدان، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة إلى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه فى القباب، ويبيت فى الخانقاه ويعمل السماع، ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد، وكان يعمله سنة فى ثامن الشهر، وسنة فى الثانى عشر، لأجل الاختلاف الذى فيه".
" فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغانى والملاهى حتى تأتى بها إلى الميدان، ثم يشرعون فى نحرها، وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة".
" فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلى المغرب فى القلعة ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شىء كثير، وفى جملتها شمعتان أو أربع ـ أشك فى ذلك ـ من الشموع الموكبية التى تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهى مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهى إلى الخانقاه".
" فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدى الصوفية، على يد كل شخص منهم بقجة، وهم متتابعون كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شىء كثير لا أتحقق عدده، ثم ينزل إلى الخانقاه وتجتمع الأعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسى للوعاظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذى فيه الناس والكرسى، وشبابيك أخرى إلى الميدان، وهو ميدان كبير فى غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند ويعرضهم ذلك بالنهار، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ".
" ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط فى الميدان للصعاليك، ويكون سماطًا عامًا فيه من الطعام والخبز شىء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماطًا ثانيًا فى الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسى، وفى مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحدًا من الأعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد، ثم يعود إلى مكانه، فإذا تكامل ذلك كله، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره، ولا يزالوا على ذلك إلى العصر أو بعدها"
" ثم يبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة، هكذا يعمل فى كل سنة، وقد لخصت صورة الحال فإن الاستقصاء يطول".
" فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلده، فيدفع لكل شخص شيئًا من النفقة، وقد ذكرت فى ترجمة الحافظ أبى الخطاب ابن دحية فى حرف العين وصوله إلى إربل وعمله لكتاب "التنوير فى مولد السراج المنير" لما رأى من اهتمام مظفر الدين به، وأنه أعطاه ألف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته من الإقامات الوافرة."
* * *
"وكان، رحمه الله، متى أكل شيئًا استطابه لا يختص به، بل إذا أكل من زبدية لقمة طيبة قال لبعض الجنادرة: احمل هذا إلى الشيخ فلان أو فلانة ممن هم عنده مشهورون بالصلاح، وكذلك يعمل فى الفاكهة والحلوى وغير ذلك من المطاعم."
"وكان كريم الأخلاق كثير التواضع حسن العقيدة سالم البطانة، شديد الميل إلى أهل السنة والجماعة لا ينفق عنده (على أحد) من أرباب العلوم سوى الفقهاء والمحدثين ومن عداهما لا يعطيه شيئًا إلا تكلفًا، وكذلك الشعراء لا يقول بهم ولا يعطيهم إلا إذا قصدوه، فما كان يضيّع قصدهم ولا يخيب أمل من يطلب بِرَّه، وكان يميل إلى علم التاريخ، وعلى خاطره منه شىء يذاكر به، ولم يزل، رحمه الله تعالى، مؤيدًا فى مواقفه ومصافاته مع كثرتها، لم ينقل أنه انكسر فى مصاف قط."
( من كتاب تاريخ الاحتفال بمولد النبى صلى الله عليه وسلم ومظاهره فى العالم )